فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} هذا الخطاب ظاهره العموم باتقاء الفتنة التي لا تختصّ بالظالم بل تعمّ الصالح والطالح وكذلك روي عن ابن عباس قال: أمر المؤمنين أن لا يقرُّوا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم الله بالعذاب ففي البخاري والترمذي أن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده، وفي مسلم من حديث زينب بنت جحش سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث»، وقيل الخطاب للصحابة، وقيل لأهل بدر، وقيل لعلي وعمار وطلحة والزبير، وقيل لرجلين من قريش قاله أبو صالح عن ابن عباس ولم يسمّهما والفتنة هنا القتال في وقعة الجمل أو الضلالة أو عدم إنكار المنكر أو بالأموال والأولاد أو بظهور البدع أو العقوبة أقوال، وقال الزبير بن العوام يوم الجمل: ما علمت أنا أُردنا بهذه الآية إلا اليوم وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها في ذلك الوقت والجملة من قوله: {لا تصيبن} خبريّة صفة لقوله فتنة أي غير مصيبة الظالم خاصة إلا أن دخول نون التوكيد على المنفى بلا مختلف فيه، فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة أو الندور والذي نختاره الجواز وإليه ذهب بعض النحويين وإذا كان قد جاء لحاقها الفعل مبنيًا بلا مع الفصل نحو قوله:
فلا ذا نعيم يتركن لنعيمه ** وإن قال قرظني وخذ رشوة أبي

ولا ذا بئيس يتركن لبؤسه ** فينفعه شكوى إليه إن اشتكي

فلان يلحقه مع غير الفصل أولى نحو: {لا تصيبنّ} وزعم الزمخشري أنّ الجملة صفة وهي نهي قال وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول كأنه قيل {واتقوا} فتنة مقولًا فيها {لا تصيبنّ} ونظيره قوله:
حتى إذا جنّ الظلام واختلط ** جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

أي بمذق مقول فيه هذا القول لأنّ فيه لون الزّرقة التي هي معنى الذئب انتهى.
وتحريره أن الجملة معمولة لصفة محذوفة وزعم الفرّاء أن الجملة جواب للأمر نحو قولك: إنزل عن الدابة لا تطرحنّك أي إن تنزل عنها لا تطرحنكّ، قال: ومنه: {لا يحطّمنّكم سليمان} أي إن تدخلوا لا يحطمنّكم فدخلت النون لما فيها من معنى الجزاء انتهى، وهذا المثال بقوله: {ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم} ليس نظير {واتقوا فتنة} لأنه ينتظم من المثال والآية شرط وجزاء كما قدر ولا ينتظم ذلك هناك ألا ترى أنه لا يصحّ تقدير إن تتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة لأنه يترتب إذ ذاك على الشرط مقتضاه من جهة المعنى وأخذ الزمخشري قول الفرّاء وزاده فسادًا وخبط فيه فقال وقوله: {لا تصيبن} لا يخلو من أن يكون جوابًا للأمر أو نهيًا بعد أمر أو صفة لفتنة فإذا كان جوابًا فالمعنى إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم انتهى.
تقرير هذا القول فانظر كيف قدّر أن يكون جوابًا للأمر الذي هو {اتقوا} ثم قدّر أداة الشرط داخلة على غير مضارع {اتقوا} فقال فالمعنى إن أصابتكم يعني الفتنة وانظر كيف قدّر الفراء في أنزل عن الدابة لا تطرحنك وفي قوله: {ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم} فأدخل أداة الشرط على مضارع فعل الأمر وهكذا يقدر ما كان جوابًا للأمر وزعم بعضهم أن قوله: {لا تصيبنّ} جواب قسم محذوف، وقيل {لا} نافية وشبه النفي بالموجب فدخلت النون كما دخلت في لتضربنّ التقدير: والله: {لا تصيبن} فعلى القول الأوّل بأنها صفة أو جواب أمر أو جواب قسم تكون النون قد دخلت في المنفى بلا وذهب بعض النحويين إلى أنها جواب قسم محذوف والجملة موجبة فدخلت النون في محلها ومطلت اللام فصارت لا والمعنى لتصيبنّ ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وعلى وزيد ان ثابت والباقر والربيع بن أنس وأبي العالية لتصيبن وفي ذلك وعيد للظالمين فقط وعلى هذا التوجيه خرّج ابن جنّي أيضًا قراءة الجماعة {لا تصيبن} وكون اللام مطلت فحدثت عنها الألف إشباعًا لأن الإشباع بابه الشعر، وقال ابن جني في قراءة ابن مسعود ومن معه يحتمل أن يراد بهذه القراءة {لا تصيبنّ} فحذفت الألف تخفيفًا واكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله.
قال المهدوي كما حذفت من ما وهي أخت لا في قوله أم والله لأفعلنّ وشبهه انتهى وليست للنفي، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ فتنة أن تصيب، وعن الزبير: لتصيبنّ وخرّج المبرّد والفراء والزجاج قراءة {لا تصيبنّ} على أن تكون ناهية.
وتمّ الكلام عند قوله: {واتقوا فتنة} وهو خطاب عام للمؤمنين تم الكلام عنده ثم ابتدئ نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة إسناده للفتنة فهو نهي محول كما قالوا لا أرينّك هاهنا أي لا تكن هنا فيقع مني رؤيتك والمراد هنا لا يتعرض الظالم للفتنة فتقع إصابتها له خاصة، وقال الزمخشري في تقدير هذا الوجه وإذا كانت نهيًا بعد أمر فكأنه قيل واحذروا ذنبًا أو عقابًا ثم قيل لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب من ظلم منكم خاصّة، وقال الأخفش {لا تصيبنّ} هو على معنى الدعاء انتهى والذي دعاه إلى هذا والله أعلم استبعاد دخول نون التوكيد في المنفي بلا واعتياض تقريره نهيًا فعدل إلى جعله دعاء فيصير المعنى لا أصابت الفتنة الظالمين خاصّة واستلزمت الدعاء على غير الظالمين فصار التقدير لا أصابت ظالمًا ولا غير ظالم فكأنه {واتقوا فتنة}، لا أوقعها الله بأحد، فتلخص في تخريج قوله: {لا تصيبن} أقوال الدعاء والنهي على تقديرين وجواب أمر على تقديرين وصفة.
قال الزمخشري، (فإن قلت): كيف جاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر، (قلت): لأن فيه معنى التمني إذا قلت إنزل عن الدابة لا تطرحك فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبن ولا يحطمنكم انتهى، وإذا قلت لا تطرحك وجعلته جوابًا لقولك إنزل وليس فيه نهي بل نفي محض جواب الأمر نفي بلا وجزمه على الجواب على الخلاف الذي في جواب الأمر والستة معه هل ثم شرط محذوف دل عليه الأمر وما ذكر معه معنى الشرط وإذا فرعنا على مذهب الجمهور في أن الفعل المنفي بلا لا تدخل عليه النون للتوكيد لم يجز أنزل عن الدابة لا تطرحنّك، وقال الزمخشري، (فإن قلت): ما معنى من في قوله: {الذين ظلموا منكم خاصّة}، (قلت): التبعيض على الوجه الأول فالتبيين على الثاني لأن المعنى لا تصيبكم خاصة على ظلمكم لأن الظلم منكم أقبح من سائر الناس انتهى، ويعني بالأول أن يكون جوابًا بعد أمر وبالثاني أن يكون نهيًا بعد أمر وخاصة أصله أن يكون نعتًا لمصدر محذوف أي إصابة خاصة وهي حال من الفاعل المستكن في {لا تصيبنّ} ويحتمل أن يكون حالًا من الذين ظلموا أي مخصوصين بها بل تعمهم وغيرهم، وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون خاصة حالًا من الضمير في ظلموا ولا أتعقل هذا الوجه.
{واعلموا أن الله شديد العقاب} هذا وعيد شديد مناسب لقوله: {لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة} إذ فيه حثّ على لزوم الاستقامة خوفًا من عقاب الله لا يقال كيف يوصل الرحيم الكريم الفتنة والعذاب لمن لم يذنب، (قلت): لأنه تصرّف بحكم الملك كما قد ينزل الفقر والمرض بعبده ابتداءً فيحسن ذلك منه أو لأنه علم اشتمال ذلك على مزيد ثواب لمن أوقع به ذلك. اهـ.

.قال أبو السعود:

{واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} أي لا تختصّ إصابتُها بمن يباشر الظلمَ منكم بل يعُمه وغيرَه كإقرار المُنكَر بين أظهُرِهم والمداهنةِ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراقِ الكلمةِ وظهورِ البدع والتكاسلِ في الجهاد، على أن قوله: {لا تصيبن} إلخ إما جوابُ الأمر على معنى أن إصابتكم لا تصيبن إلخ وفيه أن جوابَ الشرط مترددٌ فلا يليق به النونُ المؤكدةُ لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى: {ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} وإما صفةٌ لفتنة ولا للنفي وفيه شذوذٌ لأن النون لا تدخُل المنفيَّ في غير القسمِ، أو للنهي على إرادة القولِ كقول من قال:
فحتى إذا جَنّ الظلامُ واختلط ** جاءوا بمذْقٍ هل رأيتَ الذئب قطّ

وإما جوابُ قسم محذوفٍ كقراءة من قرأ: لتصيبن وإن اختلف المعنى فيهما، وقد جُوِّز أن يكون نهيًا عن التعرض للظلم بعد الأمرِ باتقاء الذنبِ فأن وبالَه يصيب الظالمَ خاصةً ويعود عليه ومِنْ في منكم على الوجوه الأُوَلِ للتبعيض وعلى الأخرين للتبيين، وفائدتُه التنبيهُ على أن الظلمَ منكم أقبحُ منه من غيركم {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشِرْ سببَه. اهـ.

.قال الألوسي:

{واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} أي لا تختص إصابتها لمن يباشر الظلم منكم بل تعمه وغيره والمراد بالفتنة الذنب وفسر بنحو إقرار المنكر والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد حسبما يقتضيه المعنى، والمصيب على هذا هو الأثر كالشآمة والوبال، وحينئذ إما أن يقدر أو يتجوز في إصابته، وجوز أن يراد به العذاب فلا حاجة إلى التقدير أو التجوز فيما ذكر لأن إصابته بنفسه، وكذا لا حاجة إلى ارتكاب تقدير في جانب الأمر ولا التزام استخدام و{لا} نافية، والجملة المنفية قيل جواب الأمر على معنى إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم، واعترض بأن جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس الأمر المظهر لا من جنس الجواب ولو قدر ذلك وفاء بالقاعدة فسد المعنى، إذ يكون إن تتقوا الفتنة تعمكم إصابتها ولا تختص بالظالمين منكم وهوكما ترى، وأجيب بأن أصل الكلام واتقوا فتنة لا تصيبنكم فإن أصابتكم لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل عمتكم فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر في جواب الأمر لتسببه منه، وسمي جواب الأمر لأن المعاملة معه لفظًا.
وفيه أن البين أن عموم الإصابة ليس مسببًا عن عدم الإصابة ولا عن الأمر وظاهر التعبير يقتضيه، وقال بعض المحققين: إن ذلك على رأي الكوفيين من تقدير ما سناسب الكلام وعدم التزام كون المقدر من جنس الملفوظ نفيًا أو إثباتًا فيقدرون في نحو لا تدن من الأسد يأكك الإثبات أي إن تدن يأكلك وفي نحو اتقوا فتنة النفي أي إن لم تتقوا تصبكم واعترض عليه بأن ذلك القائل لم يقدر لا هذا ولا ذاك وإنما قدر ما يستقيم به المعني من غير نظر إلى مضمون الأمر أو نقيضه، وأجيب بأن مراده أن التقدير إن لم تتقوا تصبكم وإن أصابتكم لا تختص بالظالمين فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر الذي هو نقيض الأمر لتسببه عنه، وما أورد على هذا من أنه لا حاجة إلى اعتبار الواسطة حينئذ إذ يكفي أن يقال: إن لم تتقوا لا تصب الظالمين خاصة فمع كونه مناقشة لفظية مدفوع بأدنى تأمل لأن عدم اختصاص إصابة الفتنة بالظالمين كما يكون بعموم الإصابة لهم ولغيرهم كذلك يكون بعدم أصابتها لهم رأسًا فلابد من اعتبار الواسطة قطعًا.
وقال بعض المتأخرين: مراد من قدر آن أصابتكم، إن لم تتقوا على مذهب من يرى تقدير النفي، لكنه عبر عنه بأصابت لتلازمها فلا يرد حديث الواسطة، نعم قيل: إن جواب الشرط متردد فلا يليق تأكيده بالنون إذ التأكيد يقتضي دفع التردد، وأجيب بأنه هنا طلبي معنى فيؤكد كما يؤكد الطلبي وهو لا ينافيه التردد في وقوعه لأنه لا تردد في طلبه على أنه قيل: إنه وإن كان مترددًا في نفسه لكونه معلقًا بما هو متردد وهو الشرط لكنه ليس بمتردد بحسب الشرط، وعلى تقدير وقوعه فيليق به التأكيد بذلك الاعتبار، وأنت تعلم أن ابن جني رجح أن المنفي بلا يؤكد في السعة لشبهه بالنهي كما في قوله سبحانه: {ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان} [النمل: 18].